مساهمات المسلمين وتحدياتهم في المجتمع الأسترالي متعدد الثقافات

  • 2019-Jul-30

تشتهر أستراليا بأنها وجهة المهاجرين، حيث تتشكل الغالبية العظمى من سكانها إما من المهاجرين أو حتى أحفاد المهاجرين. وقد أصبحت التعددية الثقافية خلال السنوات الأخيرة هوية مشتركة مقبولة للغاية بالنسبة لجميع الأستراليين. كما اختار أتباع جميع الأديان الرئيسية والأشخاص من جميع الأصول العرقية والثقافية أستراليا كموطن لهم. وعلى الرغم من أن أستراليا هي دولة ديمقراطية علمانية، إلا أن هناك اعترافًا رسميًا واحترامًا لجميع الأديان واللغات والثقافات القائمة على أرضها.

 

تواصل المسلمون مع السكان الأصليين في أستراليا قبل قرون من وصول الأسطول الأول الذي ضم 11 سفينة بريطانية إلى مدينة سيدني في يناير من عام 1788 لتأسيس مستعمرة العقوبات، وذلك بعد وصول الكابتن كوك لأول مرة إلى خليج بوتاني بولاية نيوساوث ويلز في أبريل من عام 1770.

 

ووفقًا للسجلات الحكومية، فقد ورد في سجلات التعداد السكاني لعام 1802 والتعداد السكاني لعام 1828 عددًا من الأشخاص باسم محمد (أي من المسلمين). كما جاء إلى أستراليا شخص يُدعى "رحاموت"، 23 عامًا، على متن السفينة "فيفوريت" (Favourite) في عام 1801.

 

في الواقع، بدأ العديد من المسلمين من مدينة ماكاسار (إحدى مناطق سولاويسي في إندونيسيا الحديثة) في السفر إلى ساحل شمال أستراليا قبل فترة طويلة من الاستعمار الأوروبي لأستراليا بغرض التجارة وصيد الأسماك بشكل أساسي، وخاصةً للبحث عن خيار البحر من أجل تزويد أسواق جنوب الصين به. ولكن لم يستقر هؤلاء المسلمون في أستراليا ولم يتدخلوا في الثقافة المحلية بها.

 

بدأ الاستقرار المبكر للمسلمين بوصول راكبي الإبل "الأفغان" الذين أُحضروا لأستراليا من منتصف إلى أواخر القرن التاسع عشر في سبيل تدريب الإبل التي ساعدت في فتح المناطق الداخلية الشاسعة من القارة. وقد تم استيراد الإبل لأول مرة في أستراليا خلال عام 1840 لاستكشاف المناطق القاحلة في أول الأمر، وتحسين نقل البضائع والخدمات البريدية. بحلول عام 1901، وصل عدد راكبي الإبل "الهجانة" إلى ما يقرب من 4000 في أستراليا. وعلى الرغم من أنهم جاءوا من عدة بلدان بشبه القارة، إلا أنهم كانوا يعرفون باسم "الأفغان"، وهم من نشروا الدين الإسلامي في أستراليا لأن معظمهم كانوا من المسلمين.

 

تم بناء أول مسجد في أستراليا خلال عام 1861 في مدينة ماري، جنوب أستراليا. كما تم بناء المسجد الكبير في أديلايد خلال عام 1888 من قبل أحفاد راكبي الإبل. وعلى الرغم من حركة بناء المساجد في البلد، إلا أن العديد من المسلمين الأوائل لم ينجحوا في الحفاظ على عقيدتهم وثقافتهم في ظل البيئة القاسية والصعبة آنذاك.

 

استقر راكبو الإبل في المناطق القريبة من مدينة أليس سبرينغز وغيرها من المناطق الواقعة في الإقليم الشمالي، وتزوجوا من نساء الشعوب الأصلية. حتى أنه أطلق على شبكة السكك الحديدية من أديلايد إلى داروين بالإقليم الشمالي اسم "الغان" (اختصارًا لكلمة "الأفغان") تكريمًا لذكراهم.

 

قيدت أستراليا حركة هجرة المسلمين إليها تطبيقًا لسياسة "أستراليا البيضاء" التي وضعها البرلمان الاتحادي المشكل حديثًا وقتها في 23 ديسمبر 1901. وكان الغرض من وضع هذه السياسة هو تقييد هجرة أصحاب البشرة غير البيضاء إلى أستراليا. وقد استند النقد الذي وجِّه لأصحاب البشرة غير البيضاء إلى فكرة "تفوق العرق البيض" التي تقول بأنهم كانوا أقل تقدمًا من أصحاب البشرة البيضاء في جميع النواحي، خاصةً من الناحية الأخلاقية والفكرية. ورغم ذلك، استطاع بعض المسلمين من أصول أوروبية (مثل ألبانيا وتركيا) القدوم إلى أستراليا لأنهم كانوا من أصحاب البشرة البيضاء. قام هؤلاء المهاجرون ببناء أول مسجد في ولاية فيكتوريا بمدينة شيبارتون (بالقرب من ملبورن) في عام 1956. وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين، وصل بعض المسلمين إلى أستراليا كمهاجرين من لبنان. ثم جاء عدد محدود من المسلمين بعد ذلك من فيجي وشبه القارة. ومن ثم بدأ هؤلاء المهاجرون في بناء المساجد والجمعيات الإسلامية في سبيل تسهيل تعلم الإسلام وممارسة الشعائر الإسلامية في أستراليا.

 

عندما فتحت أستراليا أبوابها أمام المهاجرين المهرة في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، بدأ عدد المسلمين المقيمين في أستراليا في الازدياد. كذلك انضم معظم المهنيين أصحاب المهارات العالية من جميع أنحاء العالم إلى القوى العاملة الأسترالية بما في ذلك المسلمين.

 

تعتبر التعددية الثقافية هي القاعدة الأنسب التي تشمل جميع الأستراليين. وتضم أستراليا 26 مليون قصة على أرضها، ويشكل التنوع واقعًا بها والتعددية الثقافية حقيقة من حقائق الحياة. لقد نجحت أستراليا متعددة الثقافات في تحقيق الاندماج بين سكانها المتنوعين من مختلف الأديان والقوميات والأعراق. ولا تقتصر التعددية الثقافية على ضمان شمولية الأفراد تحت سقفها فقط، بل تعترف أيضًا بحقوق كل طائفة عرقية ودينية ضمن قانون البلد.

 

وفقًا للتعداد السكاني لعام 2016، بلغت نسبة السكان الأصليين ما يقرب من 3٪ فقط من السكان الأستراليين، وتندرج نسبة 52.1٪ من الأستراليين تحت طائفة المسيحيين، و30٪ من الملحدين، و2.6٪ من المسلمين، و2.4٪ من البوذيين، و1.9٪ من الهندوس و0.5٪ من اليهود. وتتشكل أعلى نسبة من السكان الأستراليين (67.4٪) حاليًا من أصحاب الأصول البريطانية. وبلغت نسب سلالات الدول الأوروبية الأخرى من الأيرلنديين (8.7٪) والإيطاليين (3.8٪) والألمان (3.7٪). أما أصحاب الأصول العرقية الصينية فتمثل نسبتهم 3.6٪ من السكان.

 

تم اعتماد أول بيان استرالي متعدد الثقافات من قبل البرلمان الاتحادي في عام 1996، والذي خضع للتعديل في عامي 2011 و2017. ويرد في هذه الوثيقة البيان القائل بأن "أستراليا متعددة الثقافات - متحدة وقوية وناجحة". بالإضافة إلى ذلك، يرد في البيان أن "أستراليا هي أنجح مجتمع متعدد الثقافات في العالم وهي دولة المهاجرين." إن نصف السكان الحاليين تقريبًا إما ولدوا في الخارج أو أن أحد والديهم على الأقل مولود في الخارج، وهم يمثلون مختلف الثقافات والأعراق والأديان والأمم. والجدير بالذكر أنه لا يتم تحديد الجنسية الأسترالية بناءً على العرق أو الدين أو الثقافة، بل بالقيم المشتركة للحرية والديمقراطية وسيادة القانون والمساواة في الفرص.

 

وفي سبيل توحيد الأستراليين، قدمت الحكومة مجموعة من القيم التي تميز تلك الأمة. وهذه القيم هي (1) احترام حرية الفرد وكرامته، وحرية العقيدة، والالتزام بسيادة القانون، والديمقراطية البرلمانية، والمساواة بين الرجل والمرأة، وروح المساواة التي تحتضن الاحترام المتبادل، والتسامح، والإنصاف والتعاطف مع المحتاجين والسعي لتحقيق المصلحة العامة؛ (2) تكافؤ الفرص للأفراد، بغض النظر عن عرقهم أو دينهم أو خلفيتهم العرقية؛ و(3) اللغة الإنجليزية، باعتبارها اللغة الوطنية، من عناصر التوحيد المهمة في المجتمع الأسترالي.

 

تعد مساهمة المسلمين في المجتمع الأسترالي غاية في الأهمية، خاصةً في مجال العلوم والتكنولوجيا والغذاء والرعاية الصحية والتجارة الدولية والتعليم والتجارة الحلال والرياضة والثقافة والأمن. فغالبية المسلمين في أستراليا من المهنيين ذوي المهارات العالية، كما يتمتعون بوضع جيد بين أقرانهم، وذلك بصرف النظر عن العدد القليل للغاية من اللاجئين في البلد.

 

لقد أصبح المسلمون حديث المجتمع الأسترالي خلال السنوات الأخيرة. ويرجع ذلك إلى نشر معلومات خاطئة عن الإسلام والمسلمين بطريقة غير منصفة وقاسية، حتى بات بعض الأستراليين منزعجين من وجود المسلمين في مجتمعهم، فاقترحوا وقف هجرة المسلمين إلى بلدهم. إلا أن الزعماء المسلمين قد صمدوا بقوة أمام هذه التحديات على المستويات المحلية والوطنية، وشرعوا في العمل بجد للقضاء على سوء التفاهم وانتشار الكراهية بين السكان الأستراليين. تضافرت جهود معظم المنظمات الإسلامية، بما في ذلك الاتحاد الأسترالي للمجالس الإسلامية (AFIC) ومجلس الأئمة الفيدرالي الأسترالي (ANIC)، وتعاونوا مع العديد من الجمعيات الثقافية والعقائدية والوكالات الحكومية وغير الحكومية على مختلف مستوياتها لضمان تحقيق السلام والوئام واحترام حرية الأفراد وكرامتهم. علاوة على ذلك، أقرت الحكومة بالمساهمة الرئيسية للطائفة الإسلامية في القضاء على مظاهر التطرف والتعصب.

 

أنشأ المسلمون، تحت شعار أستراليا متعددة الثقافات، العديد من المدارس الإسلامية لتحسين مستوى تعليم أطفالهم. كما يتم بناء عدد متزايد من المساجد لتلبية الاحتياجات الدينية لدى المسلمين. تعمل العديد من المساجد خلال عطلة نهاية الأسبوع وكذلك المدارس بعد أوقات الدراسة لتدريس الإسلام للأطفال. ويقدم العاملون بها الدعم الاستشاري للعائلات المسلمة، ويتواصلون مع غير المسلمين خلال أوقات فتح المساجد المعتادة، ومهرجانات الطعام، والاحتفال العام بالعيد وأيام المناسبات الوطنية، ويشاركون في الأنشطة الرياضية والمجتمعية. لا شك أن المسلمين قد نجحوا في قيادة الأنشطة متعددة الأديان والثقافات لصالح جميع الأستراليين في العديد من النواحي. وأصبح عدد متزايد من المسلمين يشارك الآن في الحياة السياسية الأسترالية. يضم حزب العمل المعارض في البرلمان الاتحادي الحالي نائبين مسلمين ويضم حزب الخضر عضو مجلس شيوخ مسلم.

 

 

مما لا شك فيه أن المسلمين في أستراليا يتأثرون بشكل مباشر بأعمال العنف التي تحدث في أي مكان في العالم. وفي بعض الأحيان يتعرضون للإقصاء والتحامل عليهم خلال حياتهم اليومية كأستراليين. حتى أن الأفعال الإجرامية التي يرتكبها بعض الأشخاص المضلّلين تلقي باللوم غير المنصف على الطائفة المسالمة بالكامل. يتعاون المسلمون باستمرار مع السكان الأستراليين على نطاق أوسع في سبيل جعل الإسلام جزءًا لا يتجزأ من تاريخ هذه الأمة وهويتها. وإلى جانب عمل المسلمين من أجل تحقيق رفاهية مجتمعهم ومصلحته، فإنهم يسعون دائمًا لنشر تعاليم الإسلام في المجتمع على نطاق أوسع بطريقة إيجابية من خلال توضيح أن الإسلام هو دين السلام الذي يرسخ مفاهيم المساواة والرعاية والحب والاحترام والرحمة.




الأستاذ/ شاه جهان خان، الحاصل على درجة الدكتوراه

جامعة كوينزلاند الجنوبية، أستراليا

سفير التنوع الثقافي في كوينزلاند 

اشترك

اشترك في القائمة البريدية لتبقى علي تواصل دائم معنا