مسلمو بريطانيا.. بين الاندماج الاجتماعي والالتزام الإسلامي

  • 2019-May-08

مسلمو بريطانيا.. بين الاندماج الاجتماعي والالتزام الإسلامي


يمثل مسلمو بريطانيا شريحةً مهمة من نسيج المجتمع البريطاني المتعدد الوجوه. ولعل قوة هذا النسيج تأتي من إيمان المجتمع البريطاني بأهمية هذا التعدد في تقوية البنية الاجتماعية التي تسهم في تطوير المجتمع وتقدمه. 


وتجد في بريطانيا أصواتاً متعددة الرنين كلها تزعم إسلاميتها، وكلها تجد لها آذاناً بريطانية صاغية تطرب لها أحياناً وأخرى بها تستمتع٬ فتجد أن مَن يجمع المال ليبني مسجداً تشجعه البلديات المحلية ولا ترفض طلبه طالما أنه يراعي خطوط البلدية الحمراء٬ فلا يحجب النور ولا يطل على نوافذ الآخرين. وعكس ذلك تجد مساحة واسعة لمَن يقول بإباحة إمامة المرأة في الصلاة أو بجواز بيع الخمر في دكاكين المسلمين رغم مناقضة هذا لمبادئ الإسلام.


ولعل تعددية الإسلام وانعدام الموحد المرجعي بين أطياف النور الإسلامي هي من أهم المشاكل التي تواجه المسلمين٬ لا في بريطانيا بل في أوروبا كلها، ما يترك فراغاً تفضله المؤسسة الإدارية٬ خاصة في أمثال القضايا المذكورة من إشكاليات في فهم الدين الإسلامي أو عدمه في التطبيق المعاصر لمجتمع الأقليات الإسلامية مثل بريطانيا.


وتتعدد مشكلات المسلمين كأفراد وجماعات يعيشون في عواصم ومدن أوروبية مختلفة بشكل كبير..


ورغم كوني أستاذاً جامعياً بريطانياً تخصص بالفقه وأصوله٬ فأنا أتجنب الفتيا وكثيراً ما أقول لمَن يسألني: ماذا يقول الإسلام في كذا؟ أقول: انظر إلى ظرف الواقعة ولا تسقط فتوى الآخرين على حالتك بالضرورة. 


اليوم كتبت لي أخت إنجليزية مسلمة لتسأل عن إطلاق اللحية٬ هل هي واجب أم أمر مندوب؟ قلت: إن رأي الجمهور هو الوجوب. ولكن لمَ تسألين وأنت امرأة.؟ قالت: ولدي عمره 15 عاماً وقد أطلق لحيته بغزارة ومدير المدرسة يتساءل.. ويريد رسالة تثبت أن الإسلام يؤكد ذلك. قلت لها: لا بأس من تشجيع الغلام على تطبيق السنّة٬ ولكن كيف هو وممارسة باقي الإسلام؟ قالت: لا يذهب إلى المسجد ولا يصلي ولكنه مؤمن صالح! قلت ليبدأ بالصلاة. ثم ليطلق لحيته خفيفة. وجميلة لا كثة.


وأوروبا عموماً ومفكرو بريطانيا على يقين بأن الإسلام يمثل عنصر خير لمستقبل الأوربيين وهم يقتربون منه في كل يوم رغم ما تشيعه الصحافة المغرضة التي يرقصها سخف المتشددين لأنه يعطيها مادة رائجة لبيع صحفها التي تقوم على إثارة الجنس والطعام والعنف ومعاداة الغريب٬ رغم أن الكثير من تجار الصحافة البريطانية هم أصلاً من الأغراب. أما ما يقوله كبار مفكري أوروبا عن الإسلام ممن درسوه بعمق فهو أمر آخر ومجرد سوق عناوين كتبهم يعكس معان عدة لما يعد به الإسلام من أمثال كارين أرمسترونج في كتابها الرائع (محمد نبي من زماننا)، أو وادموند بوزورث في كتابه (حضارة الإسلام)٬ أو وننيان سمارت في (تجربة الإنسان الدينية). إنهم يقطعون بأن الإسلام هو منهج الإنسان ووعده لحياة أفضل.


ولابد للمسلمين وأبنائهم في أوروبا لكي يقدموا الإسلام الصحيح أن يفهموا مقاصد الإسلام الحقيقية ومصالحه ويلجأوا إليها فيقدموا مثلاً صالحاً له ولا يرعبوا الناس باللحى الشعثة والوجوه العابسة التي لا تعرف الابتسام ولا تستخدم سوى الكلمات التي يعتادها المسلمون٬ ولكن الأوروبي لا يفهمها مثل كلمة "السلام عليكم"٬ بدلاً من كلمة "صباح الخير" التي تناسب بيئة البلاد أكثر منها ورغم ما في "السلام عليكم" من بُعد حضاري رائع٬ لكنه بُعد قد لا يفهمه رجل الشارع إلا بعد شرح وملاطفة قد لا تتوفر للوهلة الأولى في عالم سريع. 


و"السلام عليكم" جميلة٬ بل واجبة على مَن يفهمها٬ لكنها قد تثير في مَن لا يفهمها شكاً من الغريب الذي يسلم عليه.. ونحن نعلم أن الأوربيين هم شعوب عاشت تاريخياً وسط الأشجار ولا يسهل عليها ألفة الغريب بعكس أبناء الصحراء الذي يرون المسافر على مد البصر فيرحبون به.. أما أبناء الأشجار فهم يتعلمون الشك بالغريب منذ الصغر وتعلمهم أمهاتهم ألا يتقبلوا هدايا ممن لا يعرفونهم ولا يخالطون إلا أمثالهم. ونفس الشي يسري على اللباس الذي قد يخلق فجوة بيننا وبين الناس. 


وقد يعترض البعض على ما أقول بأن هذه هي من مظاهر الاسلام وهويته فأقول نعم... ولكن جوهر الدين يدعو إلى غير ذلك.. إنه يدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة والقول اللين الذي ذكره القرآن الكريم لهداية فرعون فكيف بالإنسان العادي.. إن هوية المسلم تظهر باحترامه للآخرين وانسجامه معهم دون تبديد لمفردات الإسلام الأساسية أو خلط بين مبادئ الدين وخطوطه الحمراء وقشور الحضارة.


ولعل اختلال الجدار البريطاني اليوم وتوجهه نحو الخروج عن البناء الأوروبي هو نتيجة من نتائج المنهج المادي ولما يخطط له الماديون الأثرياء والخائفون من كل الأغراب٬ سواء أكانوا أوربيين مثل البولونيين والرومانيين٬ أو آسيويين من الهنود والبنغال٬ وكثير منهم مسلمون.


إن أوروبا اليوم تمر بمشكلة حقيقية وهي مشكلة تصدع القلعة الأوروبية برمتها... وتجد الحديث لا يشمل بريطانيا فحسب بل تجد من يخشى خروج إيطاليا وألمانيا وحتى فرنسا٬ وهم جميعاً يعلمون أن سبب تصدع بنائهم هو ضعف الإسمنت الذي يربط حجارته ببعضها.. إنه المنهج المادي الذي دمر الإنسان وأفسد أخلاقه وبيئته.


وأحسب أن أكثر أوروبا لا تكره الإسلام٬ وموقفها منه هو موقف أمل بمنهج يصلح فساد المناهج المادية الأخرى الطاحنة للإنسان


أما موقفها من المسلمين فهو "خوف وطمع"؛ خوف من منافستهم على الحياة وطمع بعطائهم ومشاركتهم الفعالة ذات الأجر القليل. 


ومع قلة نسبة الإنجاب في أوروبا وانخفاض الأعداد السكانية التي تدفع الضرائب وتسيّر ماكينة الحياة٬ فإن الحاجة للإنسان العامل تمثل اليوم مشكلة حقيقية في أوروبا وهي التي شجعت الكثير من أبوابها على الانفتاح لسيول البؤساء من المهاجرين عبر موج البحار وأسنان سمك القرش وأكثرهم من المسلمين.


ومن حالفه الحظ من اللاجئين٬ إذا التقطته منظمات الأمم المتحدة وهجّرته إلى غرب الأرض٬ فهو أسعد السعداء. ومنهم قلة أقل من قليلة التقيت بهم وقد قبلت بريطانيا بعضهم لا لشيء إلا لتقول للعالم إنها دولة إنسانية تساعد اللاجئين. والحقيقة أنها تزرعهم في حضارة لا علاقة لهم بها كما يُزرع النخيل البلاستيكي على زوايا المولات فيصبح جامداً كالأزهار الصناعية التي لا طعم لها ولا رائحة... اكثرهم تجدهم في فرحة غامرة حين يعطى بطاقة مكتوب عليها "لاجئ" فيحسب أنه قد فاز بالحياة الرغيدة؛ حتى إذا مر عليه الوقت وجد أنه قد فقد بيئته وحضارته ويكاد أن يفقد دينه ودين أولاده٬ وحتى إعانة الدولة تكاد لا تسمن أو تغني من جوع. وتبقى اللغة الجديدة وحضارة الغرب حاجزاً بينه وبين العالم ببرده وعبثية حياته.


ولا شك أن الإسلام يخيف أوروبا والبريطانيين وخاصة من الحجارة التي يلقيها المتعصبون والمخدوعون الذين يزعمون أنهم هم المسلمون على زجاج حياة الأبرياء. والغريب أنه برغم كل هذا فعموم الناس فيهم لا يحقدون علينا نحن غرباء غرب الأرض ويأملون أن يتعلموا منا الإسلام الذي يرون فيه عنصر الأخلاق والرحمة بنا وبهم. وما أحوجنا اليوم أن نفهم فقه مقاصد المجتمعات المسلمة الذي يحسن قياس الوقائع على علل النصوص٬ فلا يحرم ولا يحلل حسب رغبات الناس بل يفتي بفقه الرحمة ورحمة الفقه.



أ.د. موئل يوسف عز الدين

أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة ويلز - المملكة المتحدة

اشترك

اشترك في القائمة البريدية لتبقى علي تواصل دائم معنا